كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وربما قالوا: الخزرجية، وهي من بني عوف بن مالك بن الخزرج، من بطون الأنصار مع زوجها أوس بن الصامت الخزرجي أخي عُبادة بن الصامت.
قيل: إن سبب حدوث هذه القضية أن زوجها رآها وهي تصلي وكانت حسنة الجسم، فلما سلمت أرادها فأبت فغضب وكان قد ساء خلقه فقال لها: أنتِ عليّ كظهر أمي.
قال ابن عباس: وكان هذا في الجاهلية تحريمًا للمرأة مؤبَّدًا (أي وعمل به المسلمون في المدينة بعلم من النبي صلى الله عليه وسلم وإقراره الناس عليه فاستقرّ مشروعًا) فجاءت خولة رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرت له ذلك، فقال لها: «حَرُمتِ عليه»، فقالت للرسول صلى الله عليه وسلم إن لي صبية صغارًا إن ضممتهم إليه ضاعوا وإن ضممتهم إليّ جاعوا، فقال: «ما عندي في أمرككِ شيء»، فقالت: يا رسول الله ما ذكَر طلاقًا.
وإنما هو أبو وَلَدِي وأحب الناس إليّ فقال: «حَرُمتِ عليه».
فقالت: أشكو إلى الله فاقتي ووجدي.
كلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حَرُمتِ عليه» هتفت وشكت إلى الله، فأنزل الله هذه الآيات.
وهذا الحديث رواه داود في كتاب الظهار مجملًا بسند صحيح.
وأما تفصيل قصته فمن روايات أهل التفسير وأسباب النزول يزيد بعضها على بعض، وقد استقصاها الطبري بأسانيده عن ابن عباس وقتادة وأبي العالية ومحمد بن كعب القرظي وكلها متفقة على أن المرأة المجادِلة خولة أو خويلة أو جميلة، وعلى أن زوجها أَوس بن الصامت.
وروى الترمذي وأبو داود حديثا في الظهار في قصة أخرى منسوبة إلى سَلمة بن صخر البَيَاضي تشبه قصة خولة أنه ظاهرَ من امرأته ظهارًا موقنًا برمضان ثم غلبته نفسهُ فَوطئها واستفتى في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى آخر القصة، إلاّ أنهما لم يذكرا أن الآية نزلت في ذلك.
وإنما نسب ابنُ عطية إلى النقاش أن الآية نزلت بسبب قصة سلمة ولا يعرف هذا لغيره.
وَأحسب أن ذلك اختلاط بين القصتين وكيف يصح ذلك وصريح الآية أن السائلة امرأة والذي في حديث سلمة بن صخر أنه هو السائل.
و {قد} أصله حرف تحقيق للخبر، فهو من حروف توكيد الخبر ولكن الخطاب هنا للنبي صلى الله عليه وسلم وهو لا يخامره تردد في أن الله يعلم ما قالته المرأة التي جادلت في زوجها.
فتعيّن أن حرف {قد} هنا مستعمل في التوقع، أي الإِشعار بحصول ما يتوقعه السامع.
قال في (الكشاف): لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمجادِلة كانا يتوقعان أن يسمع الله لمجادلتها وشكواها وينزل في ذلك ما يفرج عنها. اهـ.
ومعنى التوقع الذي يؤذن به حرف {قد} في مثل هذا يؤول إلى تنزيل الذي يَتوقع حصول أمر لشدة استشرافه له منزلةَ المتردد الطالب فتحقيق الخبر من تخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر لنكتة كما قالوا في تأكيد الخبر بـ (إنَّ) في قوله تعالى: {ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون} [المؤمنون: 27] إنه جُعل غير السائل كالسائل حيث قُدم إليه ما يلوِّح إليه بالخبر فيستشرف له استشراف الطالب المتردد.
ولهذا جزم الرضيّ في (شرح الكافية) بأن {قَد} لابد فيها من معنى التحقيق.
ثم يضاف إليه في بعض المواضع معان أخرى.
والسماع في قوله: {سمع} معناه الاستجابة للمطلوب وقبُوله بقرينة دخول {قد} التوقعية عليه فإن المتوقَّع هو استجابة شكواها.
وقد استُحضرت المرأة بعنوان الصلة تنويهًا بمجادلتها وشكواها لأنها دلت على توكلها الصادق على رحمة ربها بها وبأبنائها وبزوجها.
والمجادلة: الاحتجاج والاستدلال، وتقدمت في قوله: {يجادلونك في الحق بعد ما تبين} في سورة [الأنفال: 6].
والاشتكاء: مبالغة في الشكوى وهي ذكر ما آذاه، يقال: شكا وتشكى واشتكى وأكثرها مبالغة.
اشتكى، والأكثر أن تكون الشكاية لقصد طلب إزالة الضرّ الذي يشتكي منه بحكم أو نصر أو إشارة بحيلةِ خلاص.
وتعلق فعل التجادل بالكون في زوجها على نية مضاف معلوم من المقام في مثل هذا بكثرة: أي في شأن زوجها وقضيته كقوله تعالى: {يجادلنا في قوم لوط} [هود: 74]، وقوله: {ولا تخاطبني في الذين ظلموا} [المؤمنون: 27] وهو من المسألة الملقبة في (أصول الفقه) بإضافة التحليل والتحريم إلى الأعْيان في نحو {حرمت عليكم الميتة} [المائدة: 3].
والتحاور تفاعل من حار إذا أجاب.
فالتحاور حصول الجواب من جانبين، فاقتضت مراجعةً بين شخصين.
والسماع في قوله: {والله يسمع تحاوركما} مستعمل في معناه الحقيقي المناسب لصفات الله إذ لا صارف يصرف عن الحقيقة.
وكون الله تعالى عالمًا بما جرى من المحاورة معلوم لا يراد من الإِخبار به إفادة الحكم، فتعيّن صرف الخبر إلى إرادة الاعتناء بذلك التحاور والتنويه به وبعظيم منزلته لاشتماله على ترقّب النبي صلى الله عليه وسلم ما ينزله عليه من وحي، وترقب المرأة الرحمةَ، وإلا فإن المسلمين يعلمون أن الله عالم بتحاورهما.
وجملة {والله يسمع تحاوركما} في موضع الحال من ضمير {تجادلك}.
وجيء بصيغة المضارع لاستحضار حالة مقارنة علم الله لتحاورهما زيادة في التنويه بشأن ذلك التحاور.
وجملة {الله سميع بصير} تذييل لجملة {والله يسمع تحاوركما} أي: أن الله عالم بكل صوت وبكل مرئيّ.
ومن ذلك محاورة المجادلة ووقوعها عند النبي صلى الله عليه وسلم وتكرير اسم الجلالة في موضع إضماره ثلاث مرات لتربية المهابة وإثارة تعظيم منته تعالى ودواعي شكره.
{الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ}
تتنزل جملة {الذين يظّهّرون منكم من نسائهم} وما يتم أحكامها منزلةَ البيان لجملة {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها} [المجادلة: 1] الآية لأن فيها مخرجًا ممَّا لحق بالمجادِلة من ضُر بظهار زوجها، وإبطالًا له، ولها أيضًا موقع الاستئناف البياني لجملة {قد سمع الله} يثير سؤالًا في النفس أن تقول: فماذَا نشأ عن استجابة الله لشكوى المجادلة فيجاب بما فيه المخرج لها منه.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب {يَظّهّرون} بفتح الياء وتشديد الظاء والهاء مفتوحتين بدون ألف بعد الظاء على أن أصله: يتَظهرون، فأدغمت التاء في الظاء لقرب مخرجيهما.
وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو جعفر وخلف {يَظَّاهرون} بفتح الياء وتشديد الظاء وألف بعدها على أن أصله: يتظاهرون، فأدغمت التاء كما تقدم.
وقرأ عاصم {يُظَاهِرون} بضم الياء وتخفيف الظاء وألف وكسر الهاء على أنه مضارع ظَاهَر.
ولم يأت مصدره إلاّ على وزن الفِعال ووزن المفاعلة.
يقال: صدر منه ظِهار ومُظاهرة، ولم يقولوا في مصدره بوزن التظَهر، فقراءة نافع قد استُغني فيها عن مصدره بمصْدر مرادفه.
ومعناه أن يقول الرجل لزوجه: أنتِ عليَّ كظهر أمِّي.
وكانَ هذا قولا يقولونه في الجاهلية يريدون به تأبيد تحريم نكاحها وبتّ عصمته.
وهو مشتق من الظهر ضد البطن لأن الذي يقول لامرأته: أنتِ عليَّ كظهر أمي، يُريد بذلك أنه حرمها على نفسه.
كما أن أُمه حرام عليه، فإسناد تركيب التشبيه إلى ضمير المرأة على تقدير حالة من حالاتها، وهي حالة الاستمتاع المعروف، سَلكوا في هذا التحريم مسلك الاستعارة المكنية بتشبيه الزوجة حينَ يقربها زوجها بالراحلة، وإثباتُ الظهر لها تخيّل للاستعارة، ثم تشبيهِ ظهر زوجته بظهر أمه، أي في حالة من أحواله، وهي حالة الاستمتاع المعروف.
وجُعل المشبه ذات الزوجة.
والمقصود أخصُّ أحوال الزوجة وهو حال قربانها فآل إلى إضافة الأحكام إلى الأعيان.
فالتقدير: قربانككِ كقربان ظهرِ أُمي، أي اعتلائها الخاص.
ففي هذه الصيغة حذف ومجيء حروف لفظ ظهر في صيغة ظهار أو مظاهرة يشير إلى صيغة التحريم التي هي (أنت عليّ كظهر أمّي) إيماء إلى تلك الصيغة على نحو ما يستعمل في النحت وليس هو من التحت لأن النحت يشتمل على حروف من عدة كلمات.
قال المفسرون وأهل اللغة: كان الظهار طلاقًا في الجاهلية يقتضي تأبيد التحريم.
وأحسب أنه كان طلاقًا عند أهل يثرب وما حولها لكثرة مخالطتهم اليهود ولا أحسب أنّه كان معروفًا عند العرب في مكة وتهامة ونجد وغيرها ولم أقف على ذلك في كلامهم.
وحسبك أن لم يذكر في القرآن إلا في المدني هنا وفي سورة الأحزاب.
والذي يلوح لي أن أهل يثرب ابتدعوا هذه الصيغة للمبالغة في التحريم، فإنهم كانوا قبل الإِسلام ممتزجين باليهود متخلّقين بعوائدهم، وكان اليهود يمنعون أن يأتي الرجل امرأتَه من جهة خلفها كما تقدم في قوله تعالى: {فأتوا حرثكم أنى شئتم} في سورة [البقرة: 223].
فلذلك جاء في هذه الصيغة لفظ الظَّهر، فجمعوا في هذه الصيغة تغليظًا من التحريم وهي أنها كأُمّه، بل كظهر أمه.
فجاءت صيغة شنيعة فظيعة.
وأخذوا من صيغة أنت علي كظهر أمي أصرح ألفاظها وأخصها بغرضها وهو لفظ ظَهر فاشتقّوا منه الفعل بزِنَات متعددة، يقولون: ظاهر من امرأته، وظهّر مثل ضاعف وضعَّف، ويدخلون عليهما تاء المطاوعة.
فيقولون: تَظاهر منها وتظَهر، وليس هذا من قبيل النحت نحو: بسمل، وهَلّل، لعدم وجود حرف من الكلمات الموجودة في الجملة كلها.
والخطاب في قوله: {منكم} يجوز أن يكون للمسلمين، فيكون ذكر هذا الوصف للتعميم بيانًا لمدلول الصلة من قوله: {الذين يظّهّرون} لئلا يُتوهّم إرادة معيّن بالصلة.
و {مِن} بيانية كشأنها بعد الأسماء المبهمة فعلم أن هذا الحكم تشريع عام لكل مظاهر.
وليس خصوصية لخَولة ولا لأمثالها من النساء ذوات الخصاصة وكثرة الأولاَد.
وأما {مِن} في قوله: {من نسائهم} فابتدائية متعلقة بـ {يظّهّرون} لتضمنه معنى البعد إذ هو قد كان طلاقًا والطلاق يبعد أحد الزوجين من الآخر، فاجتلب له حرف الابتداء.
كما يقال: خرج من البلد.
وقد تبين أن المتعارف في صيغة الظهار أن تشتمل على ما يدل على الزوجة والظهر والأم دون التفات إلى ما يربط هذه الكلمات الثلاث من أدوات الربط من أفعال وحروف نحو: أنتِ عليّ كظهر أمّي، وأنتتِ مِنّي مثل ظهر أمي، أو كوني لي كظهر أمي، أو نحو ذلك.
فأما إذا فُقِد بعض الألفاظ الثلاثة أو جميعها.
نحو: وجهُك عليّ كظهر أمي.
أو كجَنب أمّي، أو كظهر جدتي، أو ابنتي، من كل كلام يفيد تشبيه الزوجة، أو إلحاقها بإحدى النساء من مَحارِمِه بقصد تحريم قربانها، فذلك كله من الظهار في أشهر أقوال مالك وأقوالِ أصحابه وجمهور الفقهاء، ولا ينتقل إلى صيغة الطلاق أو التحريم لأن الله أراد التوسعة على الناس وعدمَ المؤاخذة.
ولم يُشِر القرآن إلى اسم الظهر ولا إلى اسم الأم إلا مراعاة للصيغة المتعارفة بين الناس يومئذٍ بحيث لا ينتقل الحكم من الظهار إلى صيغة الطلاق إلا إذا تجرد عن تلك الكلمات الثلاث تجردًا واضحًا.